فصل: ذكر قبض إبراهيم بن المهدي على عيسى بن محمد:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ (نسخة منقحة)



.ذكر قبض إبراهيم بن المهدي على عيسى بن محمد:

وفي هذه السنة، في آخر شوال، حبس إبراهيم بن المهدي عيسى بن محمد بن أبي خالد.
وسبب ذلك أن عيسى كان يكاتب حميدأن والحسن بن سهل، وكان يظهر لإبراهيم الطاعة، وكان كلما قال له إبراهيم ليخرج إلى قتال أحمد يعتذر بأن الجند يريدون أرزاقهم، ومرة يقول: حتى تدرك الغلة، فلما توثق عيسى بما يريد، فارقهم على أن يدفع إليهم إبراهيم بن المهدي يوم الجمعة سلخ شوال.
وبلغ الخبر إبراهيم، أبلغه هارون بن محمد أخوعيسى، وجاء عيسى إلى باب الجسر، فقال للناس: إني قد سألت حميداً ألا يدخل عملي، ولا أدخل عمله، ثم أمر بحفر خندق بباب الجسر، وباب الشام.
وبلغ إبراهيم قوله وفعله، وكان عيسى قد سأله إبراهيم أن يصلي الجمعة بالمدينة، فأجابه إلى ذلك، فلما تكلم عيسى بما تكلم، حذر إبراهيم، وأرسل إلى عيسى يستدعيه، فاعتل عليه، فتابع الرسل بذلك، فحضر عنده بالرصافة، فلما دخل عليه عاتبه ساعة، وعيسى يعتذر إليه، وينكر بعضه، فأمر به إبراهيم فضرب، وحبس، وأخذ عدة من قواده وأهله، فحبسهم ونجا بعضهم، وفيمن نجا خليفته العباس.
ومشى بعض أهله إلى بعض، وحرضوا الناس على إبراهيم، وكان أشدهم العباس خليفة عيسى، وكان هورأسهم، فاجتمعوأن وطردوا عامل إبراهيم على الجسر، والكرخ وغيره، وظهر الفساق والشطار، وكتب العباس إلى حميد يسأله أن يقدم عليهم حتى يسلموا إليه بغداد.

.ذكر خلع إبراهيم بن المهدي:

وفي هذه السنة خلع أهل بغداد إبراهيم بن المهدي، وكان سبب ذلك ما ذكرناه من قبضة على عيسى بن محمد، على ما تقدم، فلما كاتب أصحابه، ومنهم العباس، حميداً بالقدوم عليهم، سار حتى أتى نهر صرصر فنزل عنده.
وخرج إليه العباس وقواد أهل بغداد، فلقوه، وكانوا قد شرطوا عليه أن يعطي كل جندي خمسين درهمأن فأجابهم إلى ذلك، ووعدهم أن يصنع لهم العطاء يوم السبت في إلياس رية على أن يدعوللمأمون بالخلافة يوم الجمعة، ويخلعوا إبراهيم، فأجابوه إلى ذلك.
ولما بلغ إبراهيم الخبر أخرج عيسى ومن معه من إخوته من الحبس، وسأله أن يرجع إلى منزله، ويكفيه أمر هذا الجانب، فأبى عليه.
فلما كان يوم الجمعة أحضر العباس بن محمد أبي رجاء الفقيه، فصلى بالناس الجمعة، ودعا للمأمون بالخلافة، وجاء حميد إلى إلياس رية، فعرض جند بغداد، وأعطاهم الخمسين التي وعدهم فسألوه أن ينقصهم عشرة عشرة لما تشاءموا به من علي بن هشام حين أعطاهم الخمسين وقطع العطاء عنهم، فقال حميد: بل أزيدكم عشرة وأعطيكم ستين درهماً لكل رجل.
فلما بلغ ذلك إبراهيم دعا عيسى وسأله أن يقاتل حميدأن فأجابه إلى ذلك، فخلى سبيله، وأخذ منه كفلاء، وكلم عيسى الجند، ووعدهم أن يعطيهم مثل ما أعطاهم حميد، فأبوا ذلك، فعبر إليهم عيسى وقواد الجانب الشرقي، ووعد الجند أن يزيدهم على الستين، فشتموه وأصحابه، وقالوا: لا نريد إبراهيم، فقاتلهم ساعة، ثم ألقى نفسه في وسطهم، حتى أخذوه شبه الأسير، فأخذه بعض قواده، فأتى به منزله، ورجع الباقون إلى إبراهيم، فأخبروه الخبر، فاغتم لذلك.
وكان المطلب بن عبد الله بن مالك قد اختفى من إبراهيم، كما ذكرنأن فلما قدم حميد أراد العبور إليه، فعلموا به، فأخذوه، وأحضروه عند إبراهيم، فحبسه ثلاثة أيام، ثم خلى عنه لليلة خلت من ذي الحجة.

.ذكر اختفاء إبراهيم بن المهدي:

وفي هذه السنة اختفى إبراهيم بن المهدي؛ وكان سبب ذلك أن حميداً تحول فنزل عند أرحاء عبد اله بن مالك، فلما رأى أصحاب إبراهيم وقواده ذلك تسللوا إليه، فصار عامتهم عنده، وأخذوا له المدائن.
فلما رأى إبراهيم فعلهم أخرج جميع من بقي عنده حتى يقاتلوأن فالتقوا على جسر نهر ديالى، فاقتتلوأن فهزمهم حميد وتبعهم أصحابه، حتى دخلوا بغداد، وذلك سلخ ذي العقدة.
فلما كان الأضحى اختفى الفضل بن الربيع، ثم تحول إلى حميد، وجعل الهاشميون والقواد يأتون حميداً واحداً بعد واحد، فلما رأى ذلك إبراهيم سقط في يديه، وشق عليه؛ وكاتب المطلب حميداً ليسلم إليه ذلك الجانب، وكان سعيد بن الساجور، وأبوالبط وغيرهمأن يكاتبون علي بن هشام على أن يأخذوا له إبراهيم فلما علم إبراهيم بأمرهم، وما اجتمع عليه قوم من أصحابه جعل يداريهم، فلما جنه الليل اختفى ليلة الأربعاء لثلاث عشرة بقيت من ذي الحجة.
وبعث المطلب إلى حميد يعلمه أنه قد أحد بدار إبراهيم، وكتب ابن الساجور إلى علي بن هشام، فركب حميد من ساعته من أرحاء عبد الله، فأتى باب الجسر، وجاء علي بن هشام حتى نزل نهر بين، ثم تقدم إلى مسجد كوثر، وأقبل حميد إلى دار إبراهيم فطلبوه فلم يجدوه فيها؛ فلم يزل إبراهيم متوارياً حتى جاء المأمون، وبعد ما قدم، حتى كان من أمره ما كان.
وكانت أيام إبراهيم سنة وأحد عشر شهراً واثني عشر يومأن وكان بعده علي بن هشام على شرقي بغداد، وحميد على غربيهأن وكان إبراهيم قد أطلق سهل بن سلامة من الحبس، وكان الناس يظنونه قد قتل، فكان يدعوفي مسجد الرصافة إلى ما كان عليه، فإذا جاء الليل يرد إلى حبسه، ثم إنه أطلقه، وخلى سبيله لليلة خلت من ذي الحجة، فذهب، فاختفى، ثم ظهر بعد هرب إبراهيم، فقربه حميد، وأحسن إليه، ورده إلى أهله، فلما جاء المأمون أجازه ووصله.

.ذكر عدة حوادث:

في هذه السنة انكسفت الشمس لليلتين بقيتا من ذي الحجة، حتى ذهب ضوءهأن وغاب أكثر من ثلثيها. ووصل المأمون إلى همدان في آخر ذي الحجة؛ وحج بالناس سليمان بن عبد الله بن سليمان بن علي؛ وكانت بخراسان زلازل عظيمة، ودامت مقدرا سبعين يومأن وكان معظمها ببلخ، والجوزجان، والفارياب، والطالقان، وما وراء النهر، فخربت البلاد، وتهدمت الدور، وهلك فيها خلق كثير.
وفيها غلبت السوداء على الحسن بن سهل فتغير عقله حتى شد في الحديد وحبس، وكتب القواد إلى المأمون بذلك فجعل على عسكره دينار بن عبد الله، وأرسل إليهم يعرفهم أنه واصل.
وفيها ظهر بالأندلس رجل يعرف بالولد، وخالف على صاحبهأن فسير إليه جيشاً فحصروه بمدينة باجة، وكان استولى عليهأن فضيقوا عليه، فملكوها وقيد.
وفيها ولي أسد بن الفرات الفقيه القضاء بالقيروان.
وفيها توفي محمد بن جعفر الصادق بجرجان، وصلى على المأمون، وهوالذي بايعه الناس بالخلافة بالحجاز.
وفيها توفي خزيمة بن خازم التميمي في شعبان، وهومن القواد المشهورين وقد تقدم من أخباره ما يعرف به محله؛ ويحيى بن آدم بن سليمان؛ وأبوأحمد الزبيري؛ ومحمد بن بشير العبدي الفقيه بالكوفة؛ والنضر بن شميل اللغوي المحدث وكان ثقة.

.حوادث سنة أربع ومائتين:

.ذكر قدوم المأمون بغداد:

في هذه السنة قدم المأمون بغداد، وانقطعت الفتن، وكان قد أقام بجرجان شهرأن وجعل يقيم بالمنزل اليوم واليومين والثلاثة؛ وأقام بالنهروان ثمانية أيام، فخرج إليه أهل بيته والقواد، ووجوه الناس، وسلموا عليه.
وكان قد كتب إلى طاهر، وهوبالرقة، ليوافيه بالنهروان، فأتاه بهأن ودخل بغداد منتصف صفر، ولباسه ولباس أصحابه الخضرة، فلما قدم بغداد نزل الرصافة، ثم تحول ونزل قصره على شاطئ دجلة، وأمر القواد أن يقيموا في معسكرهم.
وكان الناس يدخلون عليه في الثياب الخضر، وكانوا يخرقون كل ملبوس يرونه من السواد على إنسان، فمكثوا بذلك ثمانية أيام، فتكلم بنوالعباس وقواد أهل خراسان، وقيل إنه أمر طاهر بن الحسين أن يسأله حوائجه، فكان أول حاجة سأله أن يلبس السواد، فأجابه إلى ذلك، وجلس للناس، وأحضر سواداً فلبسه، ودعا بخلعة سوداء فألبسها طاهرأن وخلع على قواده السواد، فعاد الناس إليه، وذلك لسبع بقين من صفر.
ولما كن سائراً قال له أحمد بن أبي خالد الأحول: يا أمير المؤمنين، فكرت في هجومنا على أهل بغداد وليس معنا إلا خمسون ألف درهم مع فتنة غلبت قلوب الناس، فكيف يكون حالنا إذا هاج هائج، أوتحرك متحرك؟ فقال: يا أحمد صدقت، ولكن أخبرك أن الناس على طبقات ثلاث في هذه المدينة: ظالم، ومظلوم، ولا ظالم ولا مظلوم، فأما الظالم فلا يتوقع إلا عفونا؛ وأما المظلوم فلا يتوقع إلا أن ينتصف بنا؛ وأما الذي ليس بظالم ولا مظلوم فبيته يسعه؛ وكان الأمر على ما قال.

.ذكر عدة حوادث:

وفيها أمر المأمون بمقاسمة أهل السواد على الخمسين، وكانوا يقاسمون على النصف، واتخذ القفير الملحم، وهوعشرة مكاكيك بالمكوك الهاروني، كيلاً مرسلاً.
وفيها واقع يحيى بن معاذ بابك، فلم يظفر واحد منهما بصاحبه؛ وولى المأمون أبا عيسى أخاه الكوفة، وصالحاً أخاه البصرة، واستعمل عبيد الله ابن الحسين بن عبيد الله بن العباس بن أبي طالب على الحرمين؛ وحج بالناس عبيد الله بن الحسن.
وفيها انحدر السيد بن أنس الأزدي من الموصل إلى المأمون فتظلم منه محمد بن الحسن بن صالح الهمداني، وذكر أنه قتل إخوته وأهل بيته، فأحضره المأمون، فلما حضر قال: أنت السيد؟ قال: أنت السيد، يا أمير المؤمنين، وأنا ابن أنس، فاستحسن ذلك، فقال: أنت قتلت إخوة هذا؟ قال: نعم، ولوكان معهم لقتلته لأنهم أدخلوا الخارجي بلدك، وأعلوه على منبرك، وأبطلوا دعوتك، فعفا عنه، واستعمله على الموصل، وكان على القضاء بها الحسن بن موسى الأشيب.
وفي هذه السنة مات الإمام محمد بن إدريس الشافعي، رضي الله عنه، وكان مولده سنة خمسين ومائة؛ والحسن بن زياد اللؤلؤي الفقيه، أحد أصحاب أبي حنيفة، وأبوداود سليمان بن داود الطيالسي، صاحب المسند، ومولده سنة ثلاث وثلاثين ومائة، وهشام بن محمد السائب الكلبي النسابة، وقيل مات سنة ست ومائتين.
وفيها توفي محمد بن عبيد أبي أمية، المعروف بالطنافسي، وقيل سنة خمس ومائتين.

.حوادث سنة خمس ومائتين:

.ذكر ولاية طاهر خراسان:

وفي هذه السنة استعمل المأمون طاهر بن الحسين على المشرق، من مدينة السلام إلى أقصى عمل المشرق، وكان قبل ذلك يتولى الشرط بجانبي بغداد ومعاون السواد.
وكان سبب ولايته خراسان أن طاهراً دخل على المأمون وهويشرب النبيذ، وحسين الخادم يسقيه، فلما دخل طاهر سقاه رطلين، وأمره بالجلوس، فقال: ليس لصاحب الشرطة أن يجلس عند سيده، فقال المأمون: ذلك في مجلس العامة، وأما في مجلس الخاصة فله ذلك؛ فبكى المأمون وتغرغرت عيناه بالدموع، فقال طاهر: يا أمير المؤمنين! لم تبكي، لا أبكى الله عينك؟ والله لقد دانت لكل البلاد، وأذعن لك العباد، وصرت إلى المحبة في كل أمرك! قال: أبكي لأمر ذكره ذل، وستره حزن، ولن يخلوأحد من شجن.
وانصرف طاهر، فدعا هارون بن جيعونة وقال له: إن أهل خراسان يتعصب بعضهم لبعض، فخذ معك ثلاثمائة ألف درهم، فأعط حسيناً الخادم مائتي ألف، وكاتبه محمد بن هارون مائة ألف، وسله أن يسأل المأمون لم بكى؟ ففعل ذلك، فلما تغدى المأمون قال: اسقني يا حسين، قال: لا والله، حتى تقول لي لم بكيت حين دخل عليك طاهر، قال: وكيف عنيت بهذا الأمر، حتى سألتني عنه؟ قال: لغمي لذلك. قال: هوأمر إن خرج من رأسك قتلتك، قال: يا سيدي ومتى أخرجت لك سراً؟ قال: إني ذكرت محمداً أخي، وما ناله من الذل، فخنقتني العبرة، فاسترحت إلى الإفاضة، ولن يفوت طاهراً مني ما يكره.
فأخبر حسين طاهراً بذلك، فركب طاهر إلى أحمد بن أبي خالد، فقال له: إن الثناء مني ليس برخيص، وإن المعروف عندي ليس بضائع، فغيبني عن عينه! فقال له: سأفعل ذلك. وركب أحمد إلى المأمون، فلما دخل عليه قال له: ما منت البارحة. قال: ولم؟ قال: لأنك وليت غسان خراسان، وهوومن معه أكلة رأس، وأخاف أن تخرج عليه خارجة من الترك فتهلكه؛ فقال: لقد فكرت فيما فكرت فيه، فمن ترى؟ قال: طاهر بن الحسين. قال: ويلك! هووالله خالع؛ قال: أنا الضامن له؛ قال: فوله، فدعا طاهراً من ساعته، فعقد له، فشخص في يومه، فنزل ظاهر البلد، فأقام شهرأن فحمل إليه عشرة آلاف ألف درهم التي تحمل لصاحب خراسان، وسار عن بغداد لليلة بقيت من ذي العقدة.
وقيل كان سبب ولايته أن عبد الرحمن المطوعي جمع جموعاً كثيرة بنيسابور ليقاتل بهم الحرورية بغير أمر والي خراسان، فتخوفوا أن يكون ذلك لأصل عمل عليه، وكان غسان بن عباد يتولى خراسان من قبل الحسن ين سهل، وسبب ذلك أن الحسن ندبه لمحاربة نصر بن شبث، قال: حاربت خليفة، وسقت الخلافة إلى خليفة، وأومر بمثل هذا؟ إمنا كان ينبغي أن يتوجه إليه قائد من قوادي، وصارمه.

.ذكر عدة حوادث:

وفيها قدم عبد الله بن طاهر بن الحسين بغداد من الرقة، وكان أبوه استخلفه بهأن وأمره بقتال نصر بن شبث، فلما قدم إلى بغداد جعله المأمون على الشرطة بعد مسير أبيه، وولى المأمون يحيى بن معاذ الجزيرة، وولى عيسى بن محمد بن أبي خالد أرمينية وأذربيجان ومحاربة بابك.
وفيها مات السري بن الحكم بمصر، وكان واليها.
وفيها مات داود بن يزيد عامل السند، فولاها المأمون بشير بن داود على أن يحمل كل سنة ألف ألف درهم.
وفيها مات ولي المأمون عيسى بن يزيد الجلوذي محاربة الزط، وحج بالناس عبيد الله بن الحسن أمير مكة والمدينة.
وفيها زادت دجلة زيادة عظيمة، فتهدمت المنازل ببغداد، وكثر الخراب بها.
وفي هذه السنة توفي يزيد بن هارون الواسطي، ومولده سنة تسع عشرة ومائة؛ والحجاج بن محمد الأعور الفقيه؛ وشبابة بن سوار الفزاري الفقيه وعبد الله بن نافع الصائغ؛ ومحاضر بن الموزع؛ وأبويحيى إبراهيم بن موسى الزيات الموصلي، سمع هشام بن عروة وغيره.

.حوادث سنة ست ومائتين:

.ذكر ولاية عبد الله بن طاهر الرقة:

وفي هذه السنة ولى المأمون عبد الله بن طاهر من الرقة إلى مصر، وأمره بحرب نصر بن شبث.
وكان سبب ذلك أن يحيى بن معاذ الذي كان المأمون ولاة الجزيرة مات في هذه السنة، واستخلف ابنه أحمد، فاستعمل المأمون عبد الله مكانه، فلما أراد توليته أحضره وقال له: يا عبد الله أستخير الله، تعالى، منذ شهر وأكثر، وأرجوأن يكون قد خار لي، ورأيت الرجل يصف ابنه لرأيه فيه، ورأيتك فوق ما قال أبوك فيك، وقد مات يحيى، واستخلف ابنه، وليس بشيء، وقد رأيت توليتك مصر ومحاربة نصر بن شبث.
فقال: السمع والطاعة، وأرجوأن يجعل الله لأمير المؤمنين الخيرة وللمسلمين؛ فعقد له، وقيل كانت ولايته سنة خمس ومائتين، وقيل سبع ومائتين.
ولما سار استخلف على الشرطة إسحاق بن إبراهيم بن الحسين بن مصعب، وهوابن عمه، ولما استعمله المأمون كتب إليه أبوه طاهر كتاباً فيه كل ما يحتاج إليه الأمراء من الآداب والسياسة وغير ذلك، وقد اثبت منه أحسنه لما فيه من الآداب والحث على مكارم الأخلاق ومحاسن الشيم، لأنه لا يستغني عنه أحد من ملك وسوقة، وهو: بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد، فعليك بتقوى الله وحده لا شريك له، وخشيته، ومراقبته، عز وجل، ومزايلة سخطه، وحفظ رعيتك في الليل والنهار، والزم ما ألبسك من العافية بالذكر لمعادك، وما أنت صائر إليه، وموقوف عليه، ومسؤول عنه، والعمل في ذلك كله بما يعصمك الله، عز وجل، وينجيك يوم القيامة من عقابه، وأليم عذابه، فإن الله سبحانه وتعالى، قد أحسن إليك وأوجب عليك الرأفة بمن استرعاك أمرهم من عباده، وألزمك العدل عليهم، والقيام بحقه وحدوده فيهم، والذب عنهم، والدفع عن حريمهم وبيضتهم، والحقن لدمائهم، والأمن لسبيلهم، وإدخال الراحة عليهم، ومؤاخذك بما فرض عليك، وموقفك عليه، ومسائلك عنه، ومثيبك عليه بما قدمت وأخرت، ففرغ لذلك فهمك، وعقلك، ونظرك، ولا يشغلك عنه شاغل، وإنه رأس أمرك، وملاك شأنك، وأول ما يوفقك الله، عز وجل، به لرشدك.
وليكن أول ما تلزم نفسك، وتنسب إليه أفعالك، المواظبة على ما افترض الله، عز وجل، عليك من الصلوات الخمس، والجماعة عليها بالناس، فأت بها في مواقيتها على سننها وفي إسباغ الوضوء لها وافتتاح ذكر الله، عز وجل، فيهأن وترتل في قراءتك، وتمكن في ركوعك وسجودك وتشهدك، وليصدق فيه رأيك، ونيتك، واحضض عليها جماعة من معك، وتحت يد، وادأب عليها فإنهأن كما قال الله، عز وجل: {إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر} العنكبوت: 45 ثم أتبع ذلك بالأخذ بسنن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، والمثابرة على خلافته، واقتفاء آثار السلف الصالح من بعده، وإذا ورد عليك أمر فاستعن عليه باستخاره الله، عز وجل، وتقواه، ولزوم ما أنزل الله، عز وجل، في كتابه من أمره ونهيه، وحلاله وحرامه، وإتمام ما جاءت به الآثار عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ثم قم فيه بما يحق الله، عز وجل، عليك، ولا تمل من العدل في ما أحببت أوكرهت لقريب من الناس، أوبعيد.
وآثر الفقه وأهله والدين وحملته، وكتاب الله، عز وجل، والعاملين به، فإن أفضل ما تزين به المرء الفقه في الدين، والطلب له، والحث عليه، والمعرفة بما يتقرب به إلى الله عز وجل، فإنه الدليل على الخير كله، والقائد له، والآمر به، والناهي عن المعاصي والموبقات كلهأن ومع توفيق الله، عز وجل، يزداد العبد معرفة لله، عز وجل، وإجلالاً له، ذكراً للدرجات العلى في المعاد مع ما في ظهوره للناس من التوقير لأمرك، والهيبة لسلطانك، والأنسة بك، والثقة بعدلك.
وعليك بالاقتصاد في الأمور كلهأن فليس شيء أبين نفعأن ولا أخص أمنأن ولا أجمع فضلاً منه، والقصد داعية إلى الرشد، والرشد دليل على التوفيق، والتوفيق قائد إلى السعادة، وقوام الدين والسنن الهادية بالاقتصاد، وأثره في دنياك كلهأن ولا تقصر في طلب الآخرة، والأجر، والأعمال الصالحة، والسنن المعروفة، ومعالم الرشد، ولا غاية للاستكثار في البر والسعي له، إذا كان يطلب به وجه الله، تعالى، ومرضاته ومرافقة أوليائه في دار كرامته.
واعلم أن القصد في شأن الدنيا يورث العز، ويحصن من الذنوب، وأنه لن تحوط لنفسك ومن يليك، ولا تستصلح أمورك بأفضل منه، فأته واهتد به تتم أمورك، وتزد مقدرتك، وتصلح خاصتك وعامتك.
وأحسن الظن بالله، عز وجل، تستقم لك رعيتك، والتمس الوسيلة إليه في الأمور كلها تستدم النعمة عليك.
ولا تتهمن أحداً من الناس فيما توليه من عملك، قبل أن تكشف أمره، فإن إيقاع التهم بالبداء، والظنون السيئة بهم مأثم، فاجعل من شأنك حسن الظن بأصحابك، واطرد عنك سوء الظن بهم، وارفضه فيهم يغنك ذلك على اصطناعهم ورياضتهم، ولا يجدن عدوالله الشيطان في أمرك مغمزأن فإنه إمنا يكتفي بالقليل من وهنك، ويدخل عليك من الغم في سوء الظن ما ينغصك لذاذة عيشك.
واعلم أنك تجد بحسن الظن قوة وراحة، وتكتفي به ما أحببت كفايته من أمورك، وتدعوبه الناس إلى محبتك والاستقامة في الأمور كلها لك، ولا يمنعنك حسن الظن بأصحابك، والرأفة برعيتك، أن تستعمل المسألة والبحث عن أمورك، ولتكن المباشرة لأمور الأولياء، والحياطة للرعية، والنظر فيما يقيمها ويصلحهأن والنظر في حوائجهم، وحمل مؤوناتهم آثر عندك مما سوى ذلك، فإنه أقوم للدين وأحيا للسنة.
واخلص نيتك في جميع هذأن وتفرد بتقويم نفسك، تفرد من يعلم أنه مسؤول عما صنع، ومجزي بما أحسن، ومأخوذ بما أساء، فإن الله، عز وجل، جعل الدين حرزاً وعزأن ورفع من اتبعه وعززه، فاسلك بمن تسوسه وترعاه نهج الدين، وطريقة الهدى.
وأقم حدود الله، عز وجل، في أصحاب الجرائم على قدر منازلهم، وما استحقوه، ولا تعطل ذلك، ولا تهاون به، ولا تؤخر عقوبة أهل العقوبة، فإن في تريطك في ذلك ما يفسد عليك حسن ظنك، واعتزم على أمرك في ذلك بالسنن المعروفة، وجانب البدع والشبهات يسلم لك دينك وتقم لك مروءتك.
وإذا عاهدت عهداً فف به، وإذا وعدت خيراً فأنجزه، واقبل الحسنة، وادفع بهأن وأغمض عن عيب كل ذي عيب من رعيتك، واشدد لسانك عن قول الكذب والزور، وأبغض أهله، وأقص أهل المنيمة، فإن أول فساد أمورك، في عاجلها وآجلهأن تقريب الكذوب، والجرأة على الكذب، لأن الكذب رأس المآثم، والزور والمنيمة خاتمتهأن لأن المنيمة لا يسلم صاحبها وقائلهأن ولا يسلم له صاحب، ولا يستتم لمطيعها أمر.
وأحب أهل الصلاح والصدق، وأعن الإشراف بالحق، وآس الضعفاء، وصل الرحم، وابتغ بذلك وجه الله، تعالى، وإعزاز أمره، والتمس فيه ثوابه والدار الآخرة، واجتنب سوء الأهواء والجور، واصرف عنهما رأيك، وأظهر براءتك في ذلك رعيتك، وأنعم بالعدل سياستهم، وقم بالحق فيهم وبالمعرفة التي تنتهي بك إلى سبيل الهدى.
واملك نفسك عند الغضب، وآثر الوقار والحلم، وإياك والحدة، والطيرة، والغرور فيما أنت بسبيله، وإياك أن تقول: أنا مسلط أفعل ما أشاء، فإن ذلك سريع فيك إلى نقص الرأي وقلة اليقين بالله، عز وجل.
وأخلص لله وحده، لا شريك له، النية فيه، واليقين به، واعلم أن الملك لله، سبحانه وتعالى، يؤتيه من يشاء وينزعه ممن يشاء، ولن تجد تغير النعمة، وحلول النقمة إلى أحد أسرع منه إلى حملة النعمة من أصحاب السلطان، والمبسوط لهم في الدولة، إذا كفروا نعم الله، عز وجل، وإحسانه، واستطاعوا بما آتاهم الله، عز وجل، من فضله.
ودع عنك شره نفسك، ولتكن ذخائرك وكنوزك، التي تذخر وتكنز، البر، والتقوى، والمعدلة، واستصلاح الرعية، وعمارة بلدهم، والتفقد لأمورهم، والحفظ لدمائهم، والإغاثة لملهوفهم؛ واعلم أن الأموال إذا كنزت، وذخرت في الخزائن لا تمنو، وإذا كانت في صلاح الرعية، وإعطاء حقوقهم، وكف مؤونة عنهم، سمت، وزكت، ومنت، وصلحت به العامة، وتزينت به الولاية، وطاب به الزمان، واعتقد فيه العز والمنعة، فليكن كنز خزائنك تفريق الأموال في عمارة الإسلام وأهله، ووفر منه على أولياء أمير المؤمنين، فتلك حقوقهم، وأوف رعيتك من ذلك حصصهم، وتعهد ما يصلح أمورهم ومعاشهم، فإنك إن فعلت ذلك قرت النعمة عليك، واستوبت المزيد من الله، عز وجل، وكنت بذلك على جباية خراجك وجمع أموال رعيتك، وعملك أقدر، وكان الجميع لما شملهم من عدلك وإحسانك أسلس لطاعتك، وأطيب نفساً بكل ما أردت، واجهد نفسك فيما حددت لك في هذا الباب، ولتعظم حسنتك فيه، وإمنا يبقى من المال ما أنفق في سبيل الله، واعرف للشاكرين شكرهم، وأثبهم عليه.
وإياك أن تنسيك الدنيا وغرورها هول الآخرة، فتهاون بما يحق عليك، فإن التهاون بورث التفريط، والتفريط يورث البوار، وليكن عملك له، عز وجل، وارج الثواب فيه، فإن الله، سبحانه، قد أسبغ عليك نعمته، وأسبغ لديك فضله؛ واعتصم بالشكر، وعليه فاعتمد، يزدك الله خيراً وإحسانأن فغن الله، عز وجل، يثيب بقدر شكر الشاكرين وسيرة المحسنين.
ولا تحقرن دينأن ولا تمالئن حاسدأن ولا ترحمن فاجرأن ولا تصلن كفورأن ولا تدهنن عدواً. ولا تصدقن منامأن ولا تأمنن غدارأن ولا توالين فاسقأن ولا تبتغين عادياً، ولا تحمدن مرائيأن ولا تحقرن إنسانأن ولا تردن سائلاً فقيرأن ولا تحبن باطلأن ولا تلاحظن مضحكأن ولا تخلفن وعدأن ولا ترهقن فاجراً فجر، ولا تركبن سفهأن ولاتظهرن غضبأن ولا تمشين مرحأن ولا تفرطن في طلب الآخرة، ولا تدفع الأيام عتاباً، ولا تغمضن عن ظالم رهبة منه، أومحاباة، ولا تطلبن ثواب الآخرة في الدنيا.
وأكثر مشاورة الفقهاء، واستعمل نفسك بالحلم، وخذ عن أهل التجارب وذوي العقل، والرأي، والحكمة، ولاتدخلن في مشورتك أهل الذمة والنحل، ولاتسمعن لهم قولأن فإن ضررهم أكثر من منفعتهم، وليس شيء أسرع فساداً لما استقبلت فيه أمر رعيتك من الشح، واعلم أنك إذا كنت حريصاً كنت كثير الأخذ، قليل العطية، وإذا كنت كذلك لم يستقم لك أمرك إلا قليلأن فإن رعيتك إمنا تعقد على محبتك بالكف عن أموالهم، وترك الجور عليهم، ويدوم صفاء أوليائك بالإفضال عليهم، وحسن العطية لهم، واجتنب الشح، والعم أنه أول ما عصى الإنسان به ربه، وأن العاصي بمنزلة خزي، وهوقول الله، عز وجل: {ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون} الحشر: 9 واجعل للمسلمين كلهم من بينك حظاً ونصيبأن وأيقن أن الجود من أفضل أعمال العباد، فاعدده لنفسك خلقأن وسهل طريق الجود بالحق، وارض به عملاً ومذهبأن وتفقد أمور الجند في دواوينهم، ومكاتبهم، وأدرر عليهم أرزاقهم، ووسع عليهم في معايشهم يذهب الله، عز وجل، بذلك فاقتهم، فيقوي لك أمرهم، وتزيد به قلوبهم في طاعتك في أمرك خلوصاً وانشراحاً.
وحسب ذي السلطان من السعادة أن يكون على جنده ورعيته رحمة في عدله، وحيطته، وإنصافه، وعنايته، وشفقته، وبره، وتوسيعه، فزايل مكروه إحدى البليتين باستشعار فضيلة الباب الآخر، ولزوم العمل به تلق، إن شاء الله تعالى، نجاحاً وفلاحاً.
واعلم أن القضاء بالعدل من الله تعالى بالمكان الذي ليس يعدل به شيء من الأمور لأنه ميزان الله الذي يعدل عليه أحوال الناس في الأرض، وبإقامة العدل في القضاء والعمل، تصلح أحوال الرعية، وتأمن السبل، وينتصف المظلوم، ويأخذ الناس حقوقهم، وتحسن المعيشة، ويؤدي حق الطاعة، ويرزق الله العافية والسلامة، ويقوم الدين، وتجري السنن والشرائع على مجاريها.
واشتد في أمر الله، عز وجل، وتورع عن النطف، وامض لإقامة الحدود، وأقلل العجلة، وابعد عن الضجر والقلق، واقنع بالقسم، وانتفع بتجربتك، وانتبه في صمتك، من رعيتك محاباة، ولا محاماة، ولا لوم لائم، وتثبت، وتأن، وراقب، وانظر الحق على نفسك، فتدبر، وتفكر، واعتبر، وتواضع لربك، وارؤف بجميع الرعية، وسلط الحق على نفسك.
ولا تسرعن إلى سفك دم، فإن الدماء من الله، عز وجل، بمكان عظيم، انتهاكاً لها بغير حقها؛ وانظر هذا الخراج الذي استقامت عليه الرعية، وجعله الله للإسلام عزاً ورفعةً، ولأهله توسعةً ومنعةً، ولعدوه وعدوهم كبتاً وغيظأن ولأهل الكفر من معانديهم ذلاً وصغارأن فوزعه بين أصحابك بالحق، والعدل، والتسوية، والعموم فيه، ولا ترفعن منه شيئاً عن شريف لشرفه، ولا عن غني لغناه، ولا عن كاتب، ولا عن أحد من خاصتك وحاشيتك، ولا تأخذن منه فوق الاحتمال له، ولا تكلف أمراً فيه شطط، واحمل الناس كلهم على مر الحق، فإن ذلك أجمع لألفتهم وألزم لرضاء العامة.
واعلم أنك جعلت، بولايتك، خازنأن وحافظأن وراعيأن وإمنا سمي أهل عملك رعيتك لأنك راعيهم، وقيمهم، تأخذ منهم ما أعطوك من عفوهم ومقدرتهم وتنفذه في قوام أمرهم وصلاحهم، وتقويم أودهم، فاستعمل عليهم ذوي الرأي والتدبير، والتجربة والخبرة بالعمل، والعلم بالسياسة والعفاف، ووسع عليهم في الرزق، فإن ذلك من الحقوق اللازمة لك فيما تقلدت، وأسند إليك، ولا يشغلك عنه شاغل، ولا يصرفك عنه صارف، فإنك متى آثرته، وقمت فيه بالواجب، استدعيت به زيادة النعمة من ربك، وحسن الأحدوثة في عملك، وأحرزت به المحبة من رعيتك، وأعنت على الصلاح، ودرت الخيرات في بلدك، وفشت العمارة بناحيتك، وظهر الخصب في كورك، وكثر خراجك، وتوفرت أموالك، وقويت بذلك على ارتباط جندك، وإرضاء العامة، بإفاضة العطاء فيهم من نفسك، وكنت محمود السياسة مرضي العدل في ذلك عند عدوك، وكنت في أمورك كلها ذا عدل، وآلة، وقوة، وعدة، فنافس في ذلك ولا تقدم عليه شيئاً تحمد مغبة أمرك، إن شاء الله تعالى.
واجعل في كل كورة من عملك أميناً يخبرك أخبار عمالك، ويكتب إليك بسيرتهم وأعمالهم، حتى كأنك مع كل عامل في عمله معاين لأموره كلهأن فإن أردت أن تأمرهم بأمر فانظر في عواقب ما أردت من ذلك، فإن رأيت السلامة فيه، والعافية، ورجوت فيه حسن الدفاع والنصح، والصنع، فأمضه، وإلا فتوقف عنه، وراجع أهل البصر والعلم به، ثم خذ فيه عدته، فإنه ربما نظر الرجل في أمر من أموره قدره وأتاه على ما يهوى، فأغواه ذلك، وأعجبه، فإن لم ينظر في عواقبه أهلكه، ونقض عليه أمره، فاستعمل الحزم في كل ما أردت، وباشره بعد عون الله، عز وجل، بالقوة، وأكثر استخارة ربك في جميع أمورك، وافرغ من عمل يومك، ولا تؤخره لغدك، واكثر مباشرته بنفسك، فإن لغد أموراً وحوادث تلهيك عن عمل يومك الذي أخرت.
واعلم أن اليوم إذا مضى ذهب بما فيه، وإذا أخرت عمله اجتمع عليك أمور يومين، فيشغلك ذلك، حتى تعرض عنه، وإذا أمضيت لكل يوم عمله، أرحت نفسك وبدنك، وأحكمت أمور سلطانك.
وانظر أحرار الناس وذوي السن منهم ممن تستيقن صفاء طويتهم، وشهدت مودتهم لك، ومظاهرتهم بالنصح والمخالصة على أمرك، فاستخلصهم وأحسن إليهم.
وتعاهد أهل البيوتات ممن قد دخلت عليهم الحاجة، فاحتمل مؤونتهم، وأصلح حالهم حتى لا يجدوا لخلتهم مسأن وأفرد نفسك بالنظر في أمور الفقراء والمساكين، ومن لا يقدر على رفع مظلمة إليك، والمحتقر الذي لا علم له بطلب حقه، فسل عنه أحفى مسألة، ووكل بأمثاله أهل الصلاح من رعيتك، ومرهم برفع حوائجهم وحالاتهم إليك لتنظر فيها بما يصلح الله به أمرهم.
وتعاهد ذوي البأساء وأيتامهم، وأراملهم، وأجعل لهم أرزاقاً من بيت المال اقتداء بأمير المؤمنين، أعزه الله، في العطف عليهم، والصلة لهم، ليصلح الله بذلك عيشهم، ويرزقك به بركة وزيادة، وأجر للأضراب من بيت المال، وقدم حملة القرآن منهم، والحافظين لأكثره في الجرائد على غيرهم، وانصب لمرضى المسلمين دوراً تؤويهم، وقواماً يرفقن بهم، وأطباء يعالجون أسقامهم، وأسعفهم بشهواتهم ما لم يؤد ذلك إلى سرف في بيت المال.
واعلم أن الناس إذا أعطوا حقوقهم وأفضل أمانيهم لم يرضهم ذلك، ولم تطل أنفسهم دون رفع حوائجهم إلى ولاتهم، طمعاً في نيل الزيادة، وفضل الرفق منهم، وربما تبرم المتصفح لأمور الناس لكثرة ما يرد عليه، ويشغل فكره وذهنه منها ما يناله به من مؤونة ومشقة، وليس من يرغب في العدل، ويعرف محاسن أموره في العاجل وفضل ثواب الآجل كالذي يستثقل بما يقربه إلى اله تعالى ويلتمس رحمته.
وأكثر الإذن للناس عليك، وابرز لهم وجهك، وسكن لهم حواسك، واخفض لهم جناحك، وأظهر لهم بشرك، ولن لهم في المسألة والنطق، واعطف عليهم بجودك وفضلك.
وإذا أعطيت فأعط بسماحة، وطيب نفس، والتماس للصنيعة والأجر من غير تكدير ولا امتنان، فإن العطية على ذلك تجارة مربحة، إن شاء الله تعالى. واعتبر بما ترى من أمور الدنيأن ومن مضى قبلك من أهل السلطان والرئاسة في القرون الخالية، والأمم البائدة، ثم اعتصم في أحوالك كلها بأمر الله، والوقوف عند محبته والعمل بشريعته وسننه، وإقامة دينه، وكتابه، واجتنب ما فارق ذلك وخالف ما دعا إلى سخط الله، عز وجل.
واعرف ما يجمع عمالك من الأموال، وينفقون منهأن ولا تجمع حرامأن ولا تنفق إسرافاً.
وأكثر مجالسة العلماء، ومشاورتهم، ومخالطتهم، وليكن هواك أتباع السنن وإقامتهأن وإيثار مكارم الأمور، ومعاليهأن وليكن أكرم دخلائك وخاصتك عليك من إذا رأى عيباً لم تمنعه هيبتك من إنهاء ذلك إليك في سرك، وإعلامك ما فيه من النقص، فإن أولئك أنصح أوليائك ومظاهريك، وانظر عمالك الذين بحضرتك، وكتابك، فوقت لكل رجل منهم في كل يوم وقتاً يدخل فيه عليك بكتبه ومؤامرته، وما عنده من حوائج عمالك وأمور كورك ورعيتك، ثم فرغ لما يورده عليك من ذلك سمعك، وبصرك، وفهمك، وعقلك، وكرر النظر فيه والتدبر له، فما كان موافقاً للحق والحزم فأمضه، واستخر الله، عز وجل، فيه، وما كان مخالفاً لذلك فاصرفه إلى التثبت فيه والمسألة عنه.
ولا تمتن على رعيتك، ولا غيرهم، بمعروف تأتيه إليهم، ولا تقبل من أحد منهم إلا الوفاء والاستقامة، والعون في أمور أمير المؤمنين، ولا تضعن المعروف إلا على ذلك؛ وتفهم كتابي إليك، وأكثر النظر فيه والعمل به، واستعن بالله على جميع أمورك، وأسخره، فإن الله، عز وجل، مع الصلاح وأهله، وليكن أعظم سيرتك، وأفضل عيشك ما كان لله، عز وجل، رضىً، ولدينه نظامأن ولأهله عزاً وتمكينأن ولذمة وللملة عدلاً وصلاحاً؛ وأنا أسأل الله أن يحسن عونك، وتوفيقك، ورشدك، وكلاءتك، والسلام.
فلما رأى الناس هذا الكتاب تنازعوه، وكتبوه، وشاع أمره، وبلغ المأمون خبره فدعا به فقرئ عليه، فقال: ما بقى أبوالطيب يعني طاهراً شيئاً من أمر الدنيا والدين، والتدبير، والرأي، والسياسة، وإصلاح الملك والرعية، وحفظ السلطان وطاعة الخلفاء، وتقويم الخلافة، إلا وقد أحكمه وأوصى به. وأمر المأمون فكتب به إلى جميع العمال في النواحي؛ فسار عبد الله إلى عمله، فاتبع ما أمر به، وعهد إليه، وسار بسيرته.